Admin مدير المنتدى
عدد المساهمات : 18996 التقييم : 35494 تاريخ التسجيل : 01/07/2009 الدولة : مصر العمل : مدير منتدى هندسة الإنتاج والتصميم الميكانيكى
| موضوع: السياحة : خواطر وآداب الأربعاء 10 يونيو 2015, 7:09 am | |
|
السياحة : خواطر وآداب للأستاذ الدكتور: فالح بن محمد الصغير
الحمد لله الذي أبان لنا السبل، ورفعنا بدينه إلى أعلى المثل، أحمده تعالى وأشكره على نعمه التي لا تعد، وإحسانه الذي لا يُحد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
كلما أقبلت الإجازة الصيفية تتنوع اهتمامات الأفراد والأسر في قضائها، وكثيرًا ما يغلب جانب السياحة على غيره، فلهذه الأهمية جاءت هذه الكلمات مجلية معنى السياحة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومجلية لمفهومها عند الناس، ومذكرة بأهم آدابها، نفع الله بها.
السياحة في اللغة:
جاء في اللسان(1): مادة «سيح» السَّيْحُ: الماءُ الظاهر الجاري على وجه الأَرض.
وقال الأزهري في التهذيب(2): الماء الظاهر على وجه الأَرض وجمعُه سُيُوح وقد ساحَ يَسيح سَيْحًا وسَيَحانًا إِذا جرى على وجه الأَرض وماءٌ سَيْحٌ وغَيْلٌ إِذا جرى على وجه الأَرض وجمعه أَسْياح.
السياحة في الشرع:
وردت السياحة في الشرع بمعان عدة:
أولا: السياحة بمعنى الصيام:
وهذا القول مأثور عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
قال الله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(3).
وقال الله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا)(4).
ثانيا: السياحة بمعنى الجهاد:
أخرج أبو داود في سننه(5) بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله تعالى».
ثالثا: السياحة بمعنى طلب العلم:
قال زيد بن أسلم، وابنه: السائحون: هم الذين يُسافرون لطلب الحديث والعلم. ولذلك قال بعض السلف: مَن لم يكن رِحْلَة، لن يكون رُحَلَة.
أي: من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعُد تأهُّلُه لِيُرْحَل إليه(6).
قال النيسابوري(7): وقيل: السائحون طلاب العلم؛ ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه. وكانت السياحة في بني إسرائيل. قال عكرمة عن وهب بن منبه: لا ريب أن للسياحة أثرًا عظيمًا في تكميل النفس؛ لأنه يَلقى أنواعًا من الضر والبؤس فيصبر عليها، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكة له، وقد ينتفع بالـمَشاهد، والزيارات للأحياء وللأموات، ويستفيد ممن هو فوقه، ويُفيد مَن هو دونه، ويكتسب التجاربَ ومعرفة الأحوال والأخلاق والسِيَر والآثار. ا.هـ.
فالسفر لطلب العلم قربة من أعظم القرب عند الله تعالى وذلك لما للعلم من فضل عظيم عند الله، يقول الله تعالى في تعظيم أولي العلم: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(8)، وقال عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ)(9).
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أهمية طلب العلم وفضل ذلك، وكذلك فضل السفر في طلب العلم فتمثَّلوا ذلك وخرجوا في طلب العلم. «فقد رحل جابر بن عبدالله من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبد الله بن أنيس»(10).
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(11).
فطالب العلم يخرج متوخيًا مقصدًا ساميًا وسياحةً من أروع ما تكون، كيف! والملائكة تضع له أجنحتها رضى بما يصنع، فسياحة طالب العلم، وخروجه ورحلته في طلب العلم هي عبادة، بل هي من أفضل العبادات، وفي هذا يقول الله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(12).
قال الشعبي: لو أن رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لا يضيع(13).
رابعا: السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض:
جاء في معجم الوسيط(14): السياحة التنقل من بلد إلى بلد؛ طلبا للتنـزه أو الاستطلاع والكشف.
وقال ابن سيده(15): قال صاحب العين [يعني: الخليل بن أحمد]: «السياحة -ذهاب الرجل في الأرض للعبادة».
وهذه الكلمة عرفت قديما عند بني إسرائيل، فالسياحة عندهم هي الذهاب في الأرض والانقطاع عن الناس والتعبد والتزهد والترهب في الصوامع، في رؤوس الجبال، في الكهوف، في الصحارى والبراري ينقطعون عن الناس.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما ابتُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد(16). لقيه ابن الدغنة(17) -وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتُعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك... الحديث»(18).
وثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: «آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون...» الحديث(19).
وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي...»(20).
وقال الله تعالى (وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(21).
وهذه السياحة التي عُرِفت عن بني إسرائيل -وأخذها عنهم كثير من الصوفية-: هي التي استأذن الرجلُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة السابق؟ فمنعه منها، وقال: «سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله»(22). وهي التي لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها للرجل، وهي التي أنكرها السلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(23): وأما السياحة التي هي: «الخروج في البرية من غير مقصد معين»: فليست من عمل هذه الأمة؛ ولهذا قال الإمام أحمد: «ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين»، مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها! متأوِّلين في ذلك، أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا رهبانية في الإسلام...».
وبمعنى السياحة: قول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(24).
ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس، عند سياحته فقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)(25).
* * *
قال ابن سعدي رحمه الله: «( السَّائِحُونَ ) فُسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم. وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام. والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك(26).
- وإذا عرف مفهوم السياحة، ففيما مضى من الآيات والأحاديث ما يرفع من شأنها، وقيمتها ومفهومها؛ ففسرت السياحة بالصيام؛ لما فيه من امتناع الصائم عن الأكل والشرب تشبيها بالسائح الذي قد لا يتوفر له الأكل في كل وقت وحين.
- وفسرت بطلب العلم لما مضى من كون طلاب العلم يسيرون مسيرة الشهر في طلب الحديث الواحد، فخروجهم ودخولهم: سفر وسياحة.
- وفسرت السياحة بالجهاد في سبيل الله تعالى، فالمجاهد يخرج ليذود عن حياض الإسلام، ويحمي أرض المسلمين.
- وقد وردت السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض كما في الآيات السابقات، ومنه قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)(27).
فمفهوم السياحة في ما مضى هو الخروج والسير في طاعة الله أو فيما يشبه ذلك.
* * *
وهذا المفهوم لكلمة السياحة من الخروج والانتشار في الأرض طاعةً لله تعالى ما زال قائما بحمد الله إلى هذا العصر، وإلى يومنا هذا.
وقوافل الحجاج، والمعتمرين القادمين من شتى بقاع الأرض سالكين كلَ فج عميق، لم يتركوا وسيلة من وسائل النقل التي توصلهم إلى بيت الله الحرام في البر والبحر إلا سلكوها، هذه القوافل ما زالت قائمة بحمد الله تثلج صدور المؤمنين، وكذلكم مازالت هناك طائفة من طلاب العلم يسيحون في الأرض شرقا وغربا يتفقهون في الدين؛ ليرجعوا إلى أهليهم منذرين دعاة إلى الله تعالى.
* * *
ولقد كان السلف يرحلون في طلب العلم والمعرفة ليالي ذوات العدد، فهذا ابن مسعود ا يقول: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه(28).
ولم تزل الساحة الإسلامية بحمد الله تعالى تشهد لكثير من العلماء وطلاب العلم فرغوا أنفسهم للدعوة إلى الله تعالى، فهم يسيحون في البلاد شرقا وغربا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
مفاهيم معاصرة لكلمة السياحة
لقد استخدم لفظ: «السياحة» في هذا الوقت في مفاهيم أخرى ليست ما سبق ذكره، منها:
أولًا: الترويح عن النفس، فلم يعد كثير من الناس يفهم من كلمة السياحة إلا ذلك، ولا بأس بهذا المفهوم إن كان السائحون يُروِّحون عن النفس بما يرضي الله لتتقوى على طاعة الله تعالى وعبادته.
ثانيا: وهي عند آخرين بمعنى الاصطياف، بمعنى أنهم يخرجون إلى أماكن معينة متميزة بميزات يحسبونها؛ من أجل أن يقضوا فيها أوقاتهم ويُنسوا أنفسَهم كثيرا من المتاعب خلال سنة كاملة مضت. وكل هذا إن وُزِن بميزان الشرع واتقى العبد ربه في كل ذلك، ولم ينتهك حرمات الله تعالى، فإنه ما زال في المشروع من السياحة إن شاء الله.
ثالثا: وهي عند آخرين بمعنى الخروج عن القيود الشرعية أو العُرفية. وللأسف فإنه يوجد فآم من المسلمين، لا يفهمون السياحة إلا بهذا المفهوم، على الرغم من أن أحدهم قد يكون متمسكا بالشرع في بلده، فإذا جاء وقت الإجازة التي تكون فيها السياحة استحضر هذا المفهوم، وطَبَّقه في سفره، ونسي أوامر الشرع، وكأن الدين عباءة لبسها في مكان ما من الأرض في وقت من الأوقات ثم نزعها ليرد تلك العباءة فيلبسها بعد شهر أو شهرين.
وهذا المفهوم للسياحة: استقر عند الكثيرين!
غير أن كثيرًا من المسلمين -المحافظين-. يقدمون عليه؛ جهلاً لحقيقته، وغفلة عن أخطاره، فيندفعون وراء الرائحين؛ قصد السياحة وراحة النفس، والاصطياف، فيجد كثير منهم نفسه في وسط الوحل، وقد يكون مثقلا بالعائلة، وحينئذ قد يحاول الرجوع فلا يملك إلى ذلك سبيلًا.
* * *
والحق: أن السياحة في الأرض من أجل التأمل في عجائب الكون، والأصناف المختلفة من مخلوقات الله، والترويح عن النفس؛ فإن ذلك مما يزيد العبد معرفة بربه عز وجل ويقينا بأن لهذا الكون مدبِّرا لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
* * *
ومن هنا نذكر:
بعض مجالات السياحة التي ينبغي للمسلم أن يتعامل معها:
فلا يظن أن السياحة مقصورة على المعنى السلبي، بل لها معان إيجابية كثيرة، ومنها:
- الذهاب للعمرة إلى بيت الله الحرام أو زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه»(29).
- وكذلك السفر إلى الوالدين وصلة الأرحام والأقارب.
- وزيارة العلماء والصالحين في الله تعالى.
- وإجابة دعوات الأفراح والمناسبات التي ليس فيها منكرات. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»(30).
- وكذلك السفر لأجل الدعوة إلى الله. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(31). وقال صلى الله عليه وسلم: «فوالله لن يهدي الله بك رجلا خير لك من حُمْر النعم»(32).
- وكذلك الترويح عن النفس بما أباح الله لها هو مسرح للاستئناس البريء الخالي من الصخب، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة بن عامر ا: «ولكن ساعة وساعة»(33)، لا كما يقول بعض الناس: «ساعات لك، وساعة لربك»، أو «استعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق»، أو «دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر» فتلك مقولات خاطئة، فالفرد والبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى جاوزوا تلك الحدود؛ فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه. لأن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد ليُنفقه فيما يعود عليه بالوبال.
فالعباد ينبغي أن يكون محياهم ومماتهم لله، ولْيعلموا أنه ما يلفظ العبد من قول إلا لديه رقيب عتيد، يكتب عليه كل شيء في سفره ومقامه، وكل عبد مجزي بعمله؛ إن عمل خيرا فسيجد عند الله خيرًا أعظم منه - والله لا يضيع أجر المحسنين، ولا يظلم مثقال ذرة-، وإن عمل شرا فإن الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ولا بأس أن تكون السياحة بهذا المفهوم في هذه الحدود.
والأفضل -الذي تؤمن معه البوائق- أن تكون في ربوع بلادنا، مع الحذر الحذر أن تُقلب المفاهيم وأن تكون صورة التنشيط السياحي مثالًا للهو والعبث والضج والضجيج والعزف والطرب، وبذل الوقت والمال فيما حرم الله ورسوله.
* * *
آداب السياحة
لما كانت السياحة جزءًا من إجازتنا الصيفية لأي غرض من الأغراض المباحة التي مضى التحدث عنها، فيجدر بنا أن نذكر شيئًا من آداب السفر:
أولاً: أن يستحضر المسافر النية الطيبة بالسفر والنزهة. بأن ينوي التقوِّيَّ على طاعة الله تعالى، والتوسعةَ على الأسرة، وإدخالَ السرور عليهم، والتمتع بإجازتهم، فيكون السفر واحدا من برامجهم وليكن سفرُه سفرَ طاعةٍ لله عز وجل.
ثانيًا: الاستخارة. لما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به. قال ويسمي حاجته»(34)
فيحاول المسلم أن يفعل ذلك في كل أمر ذي بال أقدم عليه، من سفر، أو شراءِ شيء مهم، أو زواج، أو وظيفة ونحو ذلك.
ثالثًا: أن يكتب المسلم وصيته. لما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة»(35).
فإن السفر قطعة من العذاب، والأسفار عرضة للأخطار، ومن هنا كان لزامًا على المسلم إذا أراد أن يسافر إلى مكان أن يكتب وصيته، فيكتب ما يحتاج إليه، وما له وما عليه، وبخاصة من الحقوق المالية، فإن بعض الناس يكون صحيحًا، وإذا نزل به الموت قال: ليتني كتبتُ الوصية، وأوصيت بثلث مالي في أعمال الخير أو غير ذلك.
رابعًا: أن يسافر في يوم الخميس إن أمكن. فقد روى البخاري(36) والإمام أحمد(37) رحمهما الله تعالى من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: «قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفرًا إلا يوم الخميس». فعلى الإنسان أن يتحين السفر في ذلك اليوم كلما أراد أن يسافر، فإن في ذلك اقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم الخميس يوم مبارك، فيه ترفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا كان الإنسان مسافرًا يوم الخميس رُجِي الإجابة، فإن المسافر تُرجَى إجابته، فكذلك إذا كان في يوم الخميس تُرْفَع الأعمال إلى الله، ويكون فيها الخير، والأجر والثواب.
لكن هذا لا يعني أنه يفوت مصالحه أو يكلف نفسه عناء لأجل هذا.
خامسًا: التماس الرفيق قبل الطريق. كذلك من آداب السفر: التماس الرفيق قبل الطريق، فأهل التقى يحرص على مصاحبتهم، والتماس الرفيق في الرحلة مهم جدًا؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع، وقال بعض السلف: «التمسوا الرفيق قبل الطريق»(38).
وينبغي للسائح أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه.
وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفره. قال مجاهد: «صحبتُ ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه؛ فكان هو الذي يخدمني!»(39).
وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه قال: للسفر مروءة، وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزاح في غير سخط الله(40)؛ لأن السفر فيه مشاق.
سادسًا: التأمير في السفر. لحديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنه «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»(41).
فإذا فعلوا ذلك فإنه أدعى أن يوفقوا، وأحرى أن يأتلفوا، وأجدر ألا يختلفوا، وهذا جزء من التنظيم والترتيب الذي ينبغي أن يتخذ في كل شيء.
سابعًا: تعهد الأذكار الخاصة والعامة، ومنها:
- الإتيان بدعاء الركوب ودعاء السفر؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه(42) من طريق علي الأزدي أخبره أن ابن عمر علمهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر(43) وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل». وإذا رجع قالهن وزاد فيهن «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون».
وجاء عن علي ا أنه أُتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فلما استوى على ظهرها قال: «الحمد لله» ثم قال «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون» ثم قال «الحمد لله (ثلاثًا)، الله أكبر (ثلاثًا)، سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، ثم قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت» أخرجه أحمد وأهل السنن والطبراني في الدعاء وغيرهم(44).
- إذا نزلت في مكان فاقرأ الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد جاء في حديث خولة بنت حكيم السلمية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن نزل منزلا ثم قال: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»(45)؛ لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك».
- إذا رأيت مبتلى في نفسه أو في أهله أو في ماله فقُل: «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا»، فإن ذلك الشر بإذن الله لا يصيبك، وذلك الأذى بإذن الله تعالى يتحول عنك ولا يصيبك، كما ثبت في سنن الترمذي وغيره(46).
- التسبيح والتهليل عند هبوط الأودية والتكبير إذا علا مرتفعًا كما ثبت ذلك في حديث جابر وابن عمر، ولفظ حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»(47) وهو عام في كل سفر.
- وكذلك التزام أذكار اليوم والليلة، فعن عثمان بن عفان ا قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم» ثلاث مرات فيضره شيء»(48).
ثامنًا: عدم اصطحاب المنكرات والمكروهات في السفر. فإن بعض السياح - هداهم الله - يصطحبون معهم بعض المنهيات مثل: آلات اللهو وغيرها، فعن أبي هريرة ا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس»(49)، وحين يخرج المسلم سائحًا في طاعة الله متوكلاً على الله، مبتغيًا مرضاته، مفسّحا نفسه وأولاده، فليقتصر على الحلال المباح، حتى سياحته فرجة وفسحة وأجرًا عند الله تعالى.
تاسعًا: غض البصر عما حرم الله، فالمسافر معرض في سفره إلى أنواع شتى من الصور والمناظر التي حرم الله عليه النظر إليها، فالنظرة سهم من سهام إبليس، وغالبا ما ترجع على صاحبها بالضرر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت النار على عين دمعت من خشية الله. حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله. حرمت النار على عين غضت عن محارم الله»(50). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخُطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه»(51).
عاشرًا: الحذر من التبذير! فليعلم المسافر إن كان سفره مباحًا فإنه قد يكون حرامًا في حالة إسرافه المال فوق الحاجة، أو تقصيره في أداء واجبات. قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)(52).
وهذا لا يعني حرمان النفس والأسرة مما أباحه الله تعالى؛ بل يستحسن التوسعة عليهم لأن السفر يختلف عن الإقامة.
الحادي عشر: الحذر من التقصير في حق الأهل ومَن يعول. فعن أبى هريرة قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار، فقال: «تصدق به على نفسك»، قال عندي آخر، قال: «تصدق به على ولدك»، قال عندي آخر، قال: «تصدق به على زوجتك» -أو قال «زوجك»، قال عندي آخر، قال: «تصدق به على خادمك»، قال عندي آخر، قال: «أنت أبصر»(53). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت».
وفي السفر يحسن التوسع في المباحات لمزيد من الأنس والتقارب بين الأسرة، أو الأصحاب، لكن لا يصل إلى حد التبذير والإسراف، كما سبق.
الثاني عشر: لا تستدن لتسافر للفسحة. ويمكنك التفسح بدون سفر ولا صرف مال؛ لذلك فإنه من المعيب عرفا وشرعا أن يثقل الرجل نفسه بالدين من أجل أن يفسح نفسه أو أولاده.
والدَّين ليس بالأمر الهين؛ عن جابر بن عبد الله ا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلى على رجل مات وعليه دين فأُتي بميت فقال: «أعليه دين؟». قالوا نعم ديناران.. قال: «صلوا على صاحبكم». فقال أبو قتادة الأنصاري: هما علي يا رسول الله. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلي قضاؤه، ومَن ترك مالا فلورثته»(54).
فهذا الحديث يكبر ويعظم من شأن الدَّيْن، بل إن الرجل الذي زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الواهبة نفسها له، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «التمس ولو خاتما من حديد»(55)، ولم يقل له استدِن.
ولكن للأسف فإن جملة من الناس في هذا الزمان يستدين ويثقل كاهله بأموال كثيرة ليسافر ويتنزه ويُمضي كثيرا من العام يجمع للسداد، بينما الواجب أداء الدين وإبراء الذمة منه لا زيادته.
الرابع عشر: تجنب السفر إلى بلاد الكفر، أو البلاد التي تنتشر فيها الرذيلة -ما استطعت-، ما لم يكن لديك حاجة ملحة، وكلما كان مقصدك في السياحة أَسمى كلما كان ذلك أعظم بركة وأكثر أجرا ومنفعة لك ولعائلتك.
واعلم أنه قد نهانا النبي، صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بدار الكفر، وكذا السفر، إليها بدون حاجة.
ومن سافر إلى تلك البلاد التي سبق التحذير منها، فليتَّق الله في سفره؛ في مأكله ومشربه ومنظره، فلْيحرص على الطعام الحلال، ويبتعد عن الشبهات.
الخامس عشر: تعرف على البلدان التي تسافر إليها. خذ فكرة عنها واعرف محاسنها ومساوئها، اعرف مخاطرها.. ولا تكن عرضة للابتزاز.. تيقَّظ وتنبه، وكن على حذر، لا سيما إذا كانت معك العائلة.
واستثمر مشاهدتك للمناظر الخلابة، والآثار العامرة؛ بالتفكر في مخلوقات الله وما أعده الله تعالى للمؤمنين في الجنة، وتفكر، واتعظ، واستفد من سفرك، وحقق مراد الله من السفر في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(56)، وقولَ الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(57)، وقولَ الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (58) .
فاتق الله أخي المسلم، واستقم على الطاعة؛ لتكون من المؤمنين حقا؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)(59)، وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (60).
السادس عشر: تنبه لأطفالك: فإن كثيرًا من المسلمين إذا سافروا أهملوا أطفالهم بحجة الترويح عن النفس والسياحة... ونحو ذلك، فتحصل خطورة على الأطفال والشباب والفتيات.
بل ?أيها الولي? هذا وقتك للتفرغ لأبنائك، فطالما أبعدتك عنهم الوظيفة والأشغال الجانبية، في بلدك وفي بيتك، فاحرص أن تعوضهم بجلوسك معهم في السفر، واقترب منهم أكثر وطالما ابتعدتَ عنهم مع زخم الحياة وروتينها، فاجعل لهم برامج أسرية وأَحدِث منافسة بينهم في الخير؛ كالمسابقات، واجلب بينهم المحبة، وكن معهم صاحبا في السفر، واترك الرسميات، وكثرة الأوامر، وابدأ حياة التشاور، وارجع من سفرك بدورة كاملة لعائلتك في الأخلاق، وفي التراحم، وفي المحبة، وفي الخدمة، وفي النشاط، وفي حب الخير، وفي المنافسة، وفي استغلال الوقت، وفي طاعة الوالدين، وفي حب الأقارب، بأن تمكنهم من أن يُهدوا أقاربهم ويَجلبوا لهم من الهدايا ما تتحبب بها النفوس.
السابع عشر: اختر المكان المناسب. وليكن بعيدًا عن أماكن الاختلاط والعري، والفساد. قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(61).
الثامن عشر: تذكَّر نعمة الله عليك وأدِّ شكرها؛ ليمدك الله بمثلها وأزيد منها، فغيرك مريض لا يقدر أن يغادر فراشه، وغيرك فقير لا يستطيع أن يسافر، وغيرك مبتلى لا يتمتع بما تتمتع به. قال الله تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (62). وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (63).
التاسع عشر: خض تجربتك في الدعوة إلى الله؛ لتعرف قدر نعمة الله عليك بالهداية، ولا تيأس ولا تقنط، واعلم أنك ستجد لذة الدعوة إلى الله عندما تجد مَن يصغي لك، وترى من هو بحاجة إلى كلامك الشفيق.
فاحرص أخي السائح على هذه الدعوة في سفرك، وبهذا تكون داعية متنقلًا، تجوب الأرض في سبيل الله؛ قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (64). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فوالله لئن يَهْدِىَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حُمْرُ النَّعَمِ»(65).
واعلم أخي السائح أنك في الحقيقة سائح في هذه الدنيا، فلا خير في سياحة خاسرة، لا هم لصاحبها إلا التجوال في الأرض، وإمتاع بصره ونفسه!!
والحرصَ الحرصَ على الحكمة في الدعوة، والقول اللَّيِّن، وإظهار المحبة والرحمة للمدعو... والرفقَ الرفقَ؛ فـ«ما كان الرفق في شيء إلا زانه».
إضاءات موجَّهة للمرأة المسلمة في سياحتها:
1- يجب على المرأة المسلمة ألا تسافر إلا مع ذي محرم، وهو «كل ذكر بالغ عاقل تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب أو سبب مباح». وذلك لما استقر في الدين من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم»(66). - عن ابن عباس م: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة وإلا معها محرم». فقام رجل فقال يا رسول الله اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة؟ قال: «اذهب فحج مع امرأتك»(67). 2- لتحرص المرأة المسلمة التي تسافر للسياحة مع ذويها على اللباس المحتشم الساتر، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صِنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت(68) المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا»(69). ويدخل في هذا الحديث المرأة التي تلبس لباسًا شفافًا يصفها، والمرأة التي تُظهر جزءًا من شعرها أو كله، والمرأة التي تلبس الكعب العالي؛ فإن الكعب العالي لا يدع المرأة تمشي المشية التي اعتادت عليها كما خلقها الله، بل يجعلها تتمايل في مشيتها، فتكون مائلة وداخلة في الوعيد الشديد، أعاذنا الله وإياك من ذلك. 3- تجنبي العطر لدى خروجك من بيتك وفي سياحتك، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية»(70). وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة»(71). وعن زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا»(72). 4- لا تخضعي بصوتك، ولا تتغنجي في كلامك، ولا تسترسلي في الكلام مع الرجال الأجانب، واكتفي من ذلك بالمعروف. فقد قال الله تعالى: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (73). 5- لترفق المرأة بزوجها ولا تكلفه ما لا يطيق، فالسفر عرضة لكثرة الإنفاق، فعليها مراعاة وضعه، والاعتدال في الصرف والتنقلات، وشراء الأمتعة وغيرها. 6- أن تكثر من الأذكار والأدعية في سفرها وتعلمه لأبنائها وبناتها؛ لكي يكون عاملا لحفظ الله لهم.
إضاءات سريعة ومتفرقة للسائحين
- اقرأ دعاء السفر إذا ارتحلَتْ بك دابتُك، وإذا قمتَ راجعا إلى بيتك. -كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع الوتر في السفر ولا في الحضر. - كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على دابته ويتوجه معها أينما اتجهت به. - ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها -كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم - فلا تدعها. - اقصر الصلاة الرباعية إذا كنت إماما أو منفردا، وأتمها مع الإمام المقيم إن كنت مأموما خلفه. - صل أينما أدركت الصلاة، حتى لو كنت في بلاد غير المسلمين، ولا تستح بدينك. - يجوز لك التنفل في الصلاة ولو كنت في الطائرة، والسيارة، ولو إلى غير القبلة. - لا تدع حزبك من القرآن الكريم والأذكار قدر المستطاع.
الخاتمة
وفي الختام أذكرك أخي السائح بأننا محكومون بشرع الله، يجب أن نسير على النهج الذي تربى عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا بمجرد الأمر يمتثلون قبل معرفة الحكمة، أو السؤال عن الغاية، بل لزموا المبادرة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(74)، وقد أمر الله عز وجل بذلك فقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (75). فليتق الله امرؤ علم أن الله خلقه لعبادته، وتكفل برزقه ورعايته، وهو غني عن عبادته، وإنما مَن شكر فشُكْره لنفسه، ومن أساء فعليها. فعليه بتقوى الله تعالى في حِلِّه وترحاله، يُسعده الله جل وعلا في دنياه وآخرته. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
|
|